الحديث عن الفجوة بين الأجيال لم يعد موضوعًا نظريًا أو نقاشًا ثقافيًا عابرًا، بل أصبح واقعًا يوميًا ينعكس بشكل مباشر على بيئات العمل، وخصوصًا في القطاع الصحي. اختلاف طرق التفكير، أساليب التواصل، وتوقعات كل جيل من الآخر، كلها عوامل تصنع إما بيئة تكامل حقيقية، أو فجوة تتسع مع الوقت إن لم يتم التعامل معها بوعي.
ومع تسارع التغيرات التقنية والمهنية، لم يعد الخلاف بين الأجيال مجرد اختلاف في وجهات النظر، بل تحديًا إداريًا وثقافيًا يحتاج إلى معالجة جادة.
فجوة أجيال أم سوء فهم؟
كل جيل يرى نفسه نتاج مرحلة أفضل مما سبقها، وهذا أمر تكرر عبر التاريخ. المشكلة لا تكمن في هذا الاعتقاد بحد ذاته، بل في تحوّله إلى قناعة صلبة تُقصي الآخر.
حين يُنظر إلى الجيل الأقدم على أنه عائق، أو إلى الجيل الأحدث على أنه متهور، تبدأ الفجوة في الاتساع.
الفارق الحقيقي لا تصنعه الأعمار، بل تصنعه القدرة على الفهم المتبادل، والتواصل، والاستعداد للتعلّم من الطرف الآخر.
ديوانية الأكاديمية: جلسة بعنوان جسور بين الأجيال
في ديسمبر، عُقدت ديوانية الأكاديمية بعنوان جسور بين الأجيال، كمساحة حوار مفتوحة لمناقشة هذا التحدي من زوايا مختلفة. الجلسة لم تكن محاضرة تقليدية، بل نقاشًا صريحًا شارك فيه مختصون وقادة رأي، طُرحت خلاله أسئلة حقيقية، وملاحظات واقعية من أرض الممارسة.
الأفكار التي طُرحت
كل جيل يعتقد أنه الأفضل
في بداية الجلسة، أشار د. خالد شحات إلى أن كل جيل يأتي وهو مقتنع بأنه أكثر وعيًا وتقدمًا من الجيل الذي سبقه. هذه الفكرة ليست جديدة، لكنها اليوم أكثر تأثيرًا بسبب سرعة التغيرات، ما يجعل سوء الفهم بين الأجيال أسرع وأعمق.
الفجوة ليست حتمية
تم التأكيد على أن الاختلاف بين الأجيال لا يعني بالضرورة صراعًا. السؤال الأهم كان:
ماذا يريد كل جيل من الآخر؟ وكيف يمكن ردم الفجوة بدل تضخيمها؟
الإجابة بدأت من توفير مساحة حرة للحوار، تُسمع فيها الآراء دون تصنيف أو استعلاء.
حياتنا أكبر من أطر العمل
طُرحت فكرة أن الإنسان لا يجب أن يُختزل في وظيفته أو قطاعه. حين ننظر لبعضنا فقط من زاوية المسمى الوظيفي أو الانتماء الجيلي، نفقد القدرة على رؤية الفرص الإيجابية، وننشغل بمشاكل كان يمكن تجاوزها بسهولة.
التقدم لا يعني دائمًا إنتاجية أعلى
د. محمد الهدبان رفض فكرة تصنيف الأجيال بشكل صارم، وشبّهها بمقارنة السيارات القديمة بالكلاسيكية. فالقديم ليس متخلفًا بالضرورة، والجديد ليس أفضل تلقائيًا.
رغم التقدم التقني، انخفضت الإنتاجية في بعض المنشآت الصحية، مما يؤكد أن الخبرة لا تُلغى بالتقنية، وأن التمكين بين الأجيال ضرورة يجب أن يؤمن بها المسؤول، حتى لو كان ذلك على حساب موقعه الإداري.
الذكاء الاصطناعي، أداة أم فجوة جديدة؟
سؤال عهود المطيري حول المهارات المطلوبة اليوم، ودور الذكاء الاصطناعي في تعميق الفجوة، فتح نقاشًا مهمًا. الخلاصة كانت واضحة: الذكاء الاصطناعي أداة، وليس خطرًا بحد ذاته. الخطر الحقيقي هو غياب الاستعداد للتعلّم والتكيّف.
د. يوسف البلوي أشار إلى أن قابلية التعلم لدى الشباب غالبًا أعلى، لكنها تحتاج إلى توجيه وخبرة حتى تُستثمر بشكل صحيح.
القيادة تتحمل العبء الأكبر
سائدة المطيري أكدت أن المسؤولية الأولى في سد الفجوة تقع على القادة. القائد هو من يصنع بيئة يشعر فيها الجيل الأقدم بأن خبرته مقدّرة، ويشعر فيها الجيل الأحدث بأن له دورًا حقيقيًا وليس هامشيًا.
التواصل والتدريب كحلول عملية
تم التأكيد على أن التواصل الفعّال هو حجر الأساس في تقليص الفجوة، ليس فقط لنقل التعليمات، بل لبناء الثقة. كما شددت د. لينا الباكور على دور التدريب والتأهيل المستمر في خلق لغة مشتركة بين الأجيال.
التغيير يبدأ من الدوائر الصغيرة
د. الساعي أشار إلى أن التغيير الحقيقي يبدأ من المجموعات الصغيرة، ببناء ثقافة احترام وروح عمل جماعي. وأضاف د. الغامدي أن التطور المهني مسؤولية فردية مستمرة، بغض النظر عن الجيل.
ماذا يريد كل جيل من الآخر؟
الجيل الحديث يريد أن يُعامل كشريك لا كمشروع تصحيح، وأن يُخاطَب بلغته، وهو لا يخاف من المسؤولية بقدر ما يخاف من التهميش ومن ردود الفعل القاسية عند الخطأ.
في المقابل، يحتاج الجيل الأقدم إلى الاحترام، وسماع النصيحة، وفهم أن توجيهه نابع من الحرص على جودة العمل وسلامته، لا من الرغبة في الإقصاء.
خاتمة
شهدت هذه الجلسة من ديوانية الأكاديمية تفاعلًا ملحوظًا يدل على أهمية هذا المحور وملامسته لحياة جميع الممارسين من مختلف الأجيال، حيث لوحظ كم المحاولات الجادة لبناء جسور حقيقية، مع التأكيد أنها لا تُبنى بالشعارات، بل بالقيادة الواعية، والتواصل الصادق، والتدريب المستمر، واحترام الخبرة والطموح معًا.
